بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، وأيده بأصحاب كالنجوم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وبهم أصحاب الضلالة يهتدون، وأتبعهم بعلماء كأنبياء بني إسرائيل يُعلمون الناس من شريعة نبيهم ما يجهلون، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه، عدد ما كان، وما يكون صلاة وسلاماً دائمين مُتلازمين إلى يوم يُبعثون.
وبعد؛ فإن من أراد النجاة في الدارين، والسعادة في الحالين، والاتباع بالإحسان، والإحسان باتباع الأعيان، فعليه بسلوك طريقة من سلف من الأئمة المهتدين، والعلماء العاملين، والفضلاء المحققين الفاضلين، ممن لم يُرد بالعلم مُماراة ولا مباهاة، ولا مُجادلة ولا مُضاهاة، بل قصر ليله على العبادة، ونهاره على الإفادة يقول الحق ويعمل به، ويفعل الخير ويُرشد إليه، لا تأخذه في الله لومة لائم، ولا يصده عن الحق رهبة ظالم.
ولا سبيل إلى هذا السبيل إلا بعد مَعرفتهم، والوقوف على جليتهم، والإحاطة بأوصاف أخيارهم، والاطلاع على جُملة أخبارهم.
ولما كان هذا أمراً يتعذر، وعملاُ يتعسر، بل لا يدخل تحت مقدور البشرية، ولا يُمكن إدراكه بالكلية، وقد قيل: مالا يُدرك كله لا يُترك كله، وواجب علينا أن نبدأ بالأهم، والأولى فالأولى.
وكان من أهم المهمات أن يعرف الشخص أولاً من جعله وسيلة الهداية بينه وبين الله، وقلده فيما يراه، وتبعه فيما يتحراه، اقتضى الحال على أن نقتصر على ذكر أئمتنا الذين نهتدي، وبأقوالهم وأفعالهم نقتدي.
وهم إمام الأئمة، وسراج الأمة " وأمين الله تعالى على حفظ شريعته في أرضه، والمُميز لعباده بين واجبه وفرضه " ،
أبو حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي، تغمده الله بالرحمة والرضوان، وأسكنه فسيح الجنان، وأصحابه الذين أخذوا عنه، واقتدوا به، واتبعوه بإحسان، إلى زمننا هذا، رضي الله تعالى عنهم أجمعين، فإن فيهم كفاية، لمن أراد الهداية، ونهاية، لمن أراد الدراية، وليس في أصحاب المذاهب أجل منهم، ولا أحد عاصرهم أو جاء بعدهم يستغنى عنهم، فالناس خصوصاً في الفقه عيال عليهم، وفي الرحلة أجل من تضرب أكباد الإبل إليهم، ما تركوا علماً يُمكن تعلمه إلا حصلوه، ولا فعلاً محموداً إلا فعلوه.
ترجمة الإمام الأعظم رحمه الله تعالى
هو إمام الأئمة، وسراج الأمة، وبحر العلوم والفضائل، ومنبع الكمالات والفواضل، عالم العراق، وفقيه الدنيا على الإطلاق، من أعجز من بعده عن لحاقه، وفات من عاصره في سياقه، ومن لا تنظر العيون مثله، ولا ينال مُجتهد كماله وفضله.
أبو حنيفة النعمان بن ثابت بن زوطي، بظم الزاي وفتح الطاء، وهو المشهور، وقال ابن الشحنة، نقلاً عن شيخه مجد الدين الفيروزابادي، في " طبقات الحنفية " : إنه بفتح الزاي والطاء المهملة، مثل سَكْرَى. وكان زوطي مملوكاً لبني تيم الله بن ثعلبة.
واختلف في أصله فقيل: من كابل، وقيل: من بابل، وقيل: من نسا، وقيل: من ترمذ، وقيل: من الأنبار، وقيل غير ذلك.
قال السراج الهندي: ووجه التلفيق بين هذه الروايات أن يكون جده من كابل، ثم انتقل منها إلى نسا، ثم إلى ترمذ، أو ولد أبوه بترمذ، ونشأ بالأنبار، إلخ.
قال ابن الشحنة: وهذا التلفيق أصله لخطيب خوارزم، ونظر ذلك ببعض مشايخه، فقال: كابي المعالي الفضل بن سهل الإسفرايني، فإن اباه من أسفراين، وولد هو بمصر، ونشأ بحلب، ثم أقام ببغداد، ومات بها، ويقال له: المصري، الحلبي، البغدادي.
وروى الخطيب بسنده، عن إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة، أنه كان يقول: أنا إسماعيل بن حماد بن النعمان بن ثابت بن النعمان بن المرزبان، من أبناء فارس الأحرار، والله ما وقع علينا قط؛ ولد جدي في سنة ثمانين، وذهب ثابت إلى عليّ بن أبي طالب، رضي الله تعالى عنه، وهو صغير، فدعا له بالبركة فيه، وفي ذريته، ونحن نرجو من الله أن يكون استجاب ذلك لعلي بن أبي طالب، رضي الله تعالى عنه، فينا. انتهى.
قال السراج الهندي، بعد أن نقل ما ذكر عن إسماعيل: وكذلك قاله أخو إسماعيل، ولا يحل لمسلم أن يظن بهما مع جلالة قدرهما، ودقة ورعهما، أن ينتسبا إلى غير آبائهما.
قال الخطيب البغدادي: والنعمان بن المرزبان، أبو ثابت، هو الذي أهدى لعليّ بن أبي طالب الفالوذج يوم النيروز، فقال: نورزونا كل يوم.
وقيل: كان ذلك في المهرجان، فقال: مهرجونا كل يوم.
وذكر في " الجواهر المضية " لأبي حنيفة نسباً طويلاً، أوصله إلى آدم عليه الصلاة والسلام، تركنا ذكره لعدم صحته، والله تعالى أعلم.
فصل في ذكر مولده ووفاته،
وصفته عن مزاحم بن داود بن عُلية، أنه كان يذكر عن أبيه أو غيره، أن أبا حنيفة ولد سنة إحدى وستين، ومات سنة خمسين ومائة.
وقال الخطيب: لا أعلم لصاحب هذا القول مُتابعاً، ثم روى بسنده عن أبي نعيم، أن أبا حنيفة ولد سنة ثمانين، وكان له يوم مات سبعون سنة، ومات في سنة خمسين ومائة، وهو النعمان بن ثابت.
وروى عنه بسند آخر، أنه قال: ولد أبو حنيفة سنة ثمانين بلا مائة، ومات سنة خمسين ومائة، وعاش سبعين سنة.
واختلف في الشهر الذي مات فيه، فقال بعضهم: في شعبان. وقال بعضهم: في رجب. وعن أبي يوسف: أنه مات في النصف من شوال.
وكانت وفاته بمدينة بغداد، ودفن بالجانب الشرقي منها في مقبرة الخيزران، وقبره هُناك ظاهر معروف مقصود بالزيارة.
صفته
وأما ما ورد في صفة أبي حنيفة: فمنه ما ذكر أبو نعيم، قال: كان أبو حنيفة حسن الوجه، حسن الثياب، طيب الريح، حسن المجلس، شديد الكرم، حسن المواساة لإخوانه.
وقال أبو يوسف: كان أبو حنيفة ربعة من الرجال، ليس بالقصير ولا بالطويل، وكان أحسن الناس منطقاً، وأحلاه نغمة، وأنبهه على ما يريده.
وعن عمر بن حماد بن أبي حنيفة، أن أبا حنيفة كان طوالاً، تعلوه سمرة، وكان لباساً، حسن الهئة، كثير التعطر، يعرف بريح الطيب إذا أقبل وإذا خرج من منزله قبل أن نراه. رضي الله عنه.
فصل في ذكر خبر ابتداء أبي حنيفة
بالنظر في العلم عن أبي يوسف أن قال: قال لي أبو حنيفة: لما أردت طلب العلم جعلت أتخير العلوم، وأسأل عن عواقبها، فقيل لي: تعلم القرآن.
فقلت: إذا تعلمت القرآن، وحفظته، فما يكون آخره؟ قالوا: تجلس في المسجد، ويقرأ عليك الصبيان والأحداث، ثم لا تلبث أن تخرج منهم من هو أحفظ منك، أو يُساويك في الحفظ، فتذهب رياستك.
قلت: فإن سمعت الحديث، وكتبته حتى لم يكن في الدنيا أحفظ مني؟ قالوا: إذا كبرت وضعفت، حدثت واجتمع عليك الأحداث والصبيان، ثم لا تأمن أن تغلط فيرموك بالكذب، فيصير عاراً عليك في عَقبِك.
فقلت: لا حاجة لي في هذا.
قلت: فإذا حفظت العربية، وتعلمت النحو ما يكون آخر أمري؟ قالوا: تقعد مُعلماً، فأكثر رزقك ديناران إلى ثلاثة.
قلت: فإن نظرت في الشعر، فلم يكن أشعر مني، ما يكون آخر أمري؟ قالوا: تمدح هذا فيهب لك، أو يحملك على دابة، أو يخلع عليك خلعة، وإن حرمك هجوته، فصرت تقذف المحصنات.
فقلت: لا حاجة لي في هذا.
قلت: فإن نظرت في الكلام، ما يكون آخره؟ قالوا: لا يسلم من نظر في الكلام من مُشنعات الكلام، فيرمى بالزندقة فإما أن يؤخذ فيقتل، وإما أن يسلم فيكون مذموماً ملوماً.
قلت: فإن تعلمت الفقه؟ قالوا: تُسأل، وتُفتي الناس، وتُطلب للقضاء، وإن كنت شاباً.
قلت: ليس في العلوم شيء انفع من هذا. فلزمت الفقه، وتعلمته.
الطبقات السنية في تراجم الحنفية / تقي الدين بن عبد القادر التميمي الداري الغزي 2017-09-27