موقع تعليم الاسلام
القياس عند أبي حنيفة رحمه الله
والدليل على أن مذهب أبي حنيفة على الصفة المشروحة، ما روى أبو مطيع البلخي، قال: " كتب " أبو جعفر المنصور إلى أبي حنيفة يسأله عن مسائل، وكان مما سأل: أخبرني عن ما أنت عليه، فقد وقع فيك الناس، وزعموا أنك ذو رأي، وصاحب اجتهاد وقياس، وكتبت إليك بالمسائل، فإن كنت بها عالماً علمنا أنك تقول بما نقول، وإن اشتبهت عليك، وتماديت فيها، علمنا أنك تقول بالقياس، والسلام.
فأجاب عن تلك المسائل، وقال: يعلم أمير المؤمنين أن الذين يقعون فينا لأنا نعمل بكتاب الله، ثم سنة رسوله عليه الصلاة والسلام، ثن بأحاديث الصحابة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ونحوهم، وهذا حسد منهم، وطعن في الدين، وهذا علم لا يعرفه إلا الخبير البصير، والله ما تكلمت بمسألة حتى أذنت نفسي بالنصيحة، وليس بين الله وبين خلقه قرابة، وقد قالت الصحابة والتابعون: الأمر بالرأي لا بالكبر والسن، فمن وافق كان أقرب إلى الحق، وأوفق للقرآن والسنن، فالأولى أن يعمل بقولهم.
وقال أبو مطيع البلخي لأبي حنيفة: أرأيت لو رأيت رأياً، ورأى أبو بكر رأياً غيره، أتدع رأيك برأيه؟ قال: نعم.
فقلت: أرأيت لو رأيت رأياً، ورأى عمر رأياً، أتدع رأيك برأيه؟ قال: نعم.
قال: ثم سألته عن عثمان وعلي، فأجاب بمثل هذا، وقال: إني أدع رأيي عند رأي جميع الصحابة، إلا ثلاثة أنفس: أبو هريرة، وأنس بن مالك، وسمرة بن جُندب.
فهذا يدل على أنه يؤخر القياس عند الآثار.
اقوال كبار العلماء في الإمام ابي حنيفة رحمه الله
ويدل على ذلك أيضاً، ما روى عن محمد بن النضر، وكان من كبار العلماء، وأنه قال: ما رأيت أحداً تمسك بالآثار أكثر من أبي حنيفة.
وعن أبي مُطيع البلخي، أن سفيان الثوري، ومقاتل بن حيان، وحماد بن سلمة، وغيرهم من فقهاء ذلك العصر، اجتمعوا وقالوا: إن النعمان هذا يدعي الفقه، وما عنده إلا القياس، فتعالوا حتى نناظره في ذلك، فإن قال: إنه قياس. قلنا له: عبدت الشمس بالمقاييس، وأول من قاس إبليس، لعنه الله، حيث قال: (خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ).
فناظرهم أبو حنيفة، يوم الجمعة في جامع الكوفة، وعرض عليهم مذهبه كما ذكرنا، فقالوا: إنك سيد العلماء، فاعف عنا؛ فإننا وقعنا فيك من غير تجربة ولا روية.
فقال لهم أبو حنيفة: غَفر الله لنا ولكم.
كان قياس الشيطان فاسدا و رد امر الله
وروى أن أبا حنيفة كان يتكلم في مسألة من المسائل القياسية، وشخص من أهل المدينة يتسمع، فقال: ما هذه المُقايسة، دعوها فإن أول من قاس إبليس.
فأقبل عليه أبو حنيفة، فقال: يا هذا، وضعت الكلام في غير موضعه، إبليس رد على الله تعالى أمره، قال الله تعالى: (وإذْ قُلْنَا للمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدوا إلا إبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أمْرِ رَبِّهِ)، وقال تعالى: (فَسَجَدَ المَلائِكَةُ كُلُهم أجْمَعُون* إلا إبليسَ أبَى أنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدين)، وقال: (إلا إبليسَ أبَى وَاسْتَكْبَر وَكَانَ مِنَ الكَافِرينَ)، وقال: (أأسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً) فاستكبر ورد على الله أمره، وكل من رد على الله تعالى أمره فهو كافر، وهذا القياس الذي نحن فيه نطلب فيه اتباع أمر الله تعالى؛ لأنا نرده إلى أصل أمر الله تعالى في الكتاب، أو السنة، أو إجماع الصحابة والتابعين، فلا نخرج من أمر الله تعالى، ويكون العمل على الكتاب والسنة والإجماع، فاتبعنا في أمرنا إليها أمر الله تعالى، قال الله تعالى: (يَا أيُهَا الَّذِنَ آمَنُوا أطيعوا الله وأطِعوا الرَّسُولَ وَأولِي الأمْرِ مِنْكُمْ). إلى قوله: (وَالْيَومِ الآخِرِ)، فنحن ندور حول الاتباع، فنعمل بأمر الله تعالى، وإبليس خالف أمر الله تعالى، ورده عليه، فكيف يستويان؟ فقال الرجل: غلطت يا أبا حنيفة، وتُبتُ إلى الله تعالى، فنور الله قلبك كما نورت قلبي.
ولا بأس بذكر بعض المسائل الشاهدة لما ذكرنا، والموضحة لما قررنا، على أنها لا تدخل تحت الحضر، والله الموفق للصواب:
*مسألة، رجل رد عبداً آبقاً من مسيرة ثلاثة أيام.
قال أبو حنيفة: له الجعل أربعون درهماً. وكان القياس أن لا يجب، فترك الناس وأخذ من ذلك بالخبر الذي روى عن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه، في خبر طويل، أن رجلاً قدم بآبق من الفيوم، فقال القوم: لقد أصاب أجراً.
فقال ابن مسعود: وأصاب جعلاً.
وقال من خالفه: لا يجب الجعل. فترك الخبر وأخذ بالقياس.
*مسألة، ولو أن رجلاً حلق لحية رجلٍ، أو حاجبيه، فلم تنبت ثانياً.
قال أبو حنيفة: يجب على الحالق دية كاملة.
وقال من خالفه: لا يجب الدية على الكمال.
وكان القياس أن لا يجب الدية على الكمال، فترك القياس، وأخذ بالخبر المروي في حديث سعيد بن المُسيب، رحمه الله تعالى.
*مسألة، ولو أن رجلاً أوجب على نفسه أن ينحر ولده.
قال أبو حنيفة: يلزمه أن يذبح شاة.
وقال من خالفه: لا يجب عليه شيء. فأخذ بالقياس وترك الخبر.
*مسألة، ولو أن رجلاً حلف، وقال: إن فعلت كذا فأنا بريء من الإسلام. ففعل ذلك.
قال أبو حنيفة: يجب عليه كفارة يمين.
وكان القياس أن لا يجب عليه شيء، فترك القياس، وأخذ بالخبر المروي عن عائشة، وابن عمر، رضي الله عنهما، أنهما أوجبا فيه كفارة يمين.
وقال من خالفه: لا شيء عليه إلا التوبة. فأخذ القياس.
*مسألة، ولو أن رجلاً اشترى شيئاً بألف درهم، وقبضة، ولم ينقد الثمن، ثم باعه من البائع بخمسمائة درهم.
قال أبو حنيفة: بيع الثاني لا يجوز.وكان ينبغي في القياس أن يجوز. فترك القياس، وأخذ في ذلك بخبر روي عن عائشة، رضي الله عنها، أنها قالت للمرأة التي سألتها عن هذا البيع: أبلغي زيد بن أرقم أن الله تعالى أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لم يتب.
وقال من خالفه: يجوز بيعه. فأخذ بالقياس وترك الخبر.
*مسألة، ولو أن رجلاً باع من ذمي خمراً.
قال أبو حنيفة: جاز بيعه.
وكان ينبغي في القياس أن لا يجوز، فترك أبو حنيفة القياس، وأخذ بالخبر الذي روي عن عمر أنه قال: ولوهم بيعها، وخذوا العُشر من أثمانها.
وقال من خالفه: لا يجوز بيعه. وأخذ بالقياس وترك الخبر.
*مسألة، ولو أن رجلاً اغتسل من الجنابة، ولم يتمضمض ولم يستنشق، وصلى على ذلك.
قال أبو حنيفة: لا يجوز ما لم يتمضمض ويستنشق.
فرآهما فرضين في الجنابة، وكان القياس أن لا يكونا فرضين، فترك القياس، وأخذ بخبر الواحد، وهو ما روي عن ابن عباس، رضي الله تعالى عنهما، أنه قال: من ترك المضمضة، والاستنشاق، في الجنابة، وصلى، تمضمض، واستنشق، وأعاد ما صلى.
وقال من خالفه: المضمضة والاستنشاق غير مفروضين في غسل الجنابة. فأخذ بالقياس، وترك الخبر.
ويقع الخلاف من هذا الجنس بين أبي حنيفة ومالك؛ لأن عند أبي حنيفة الخبر المروي عن طريق الآحاد مُقدم على القياس، وعند مالك، القياس مُقدم على الخبر المروي من طريق الآحاد.
*مسألة، ولو أن صائماً أكل، أو شرب، أو جامع، ناسياً.
قال أبو حنيفة: لا يبطل صومه.
وكان القياس أن يبطل، فترك القياس، وأخذ بخبر رواه أبو هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: " الصائم إذا أكل أو شرب ناسياً فليتم صومه، فإن الله تعالى أطعمه وسقاه " .
وقال من خالفه: يبطل صومه. فأخذ بالقياس، وترك الخبر.
*مسألة، ولو أم رجلاً تزوج أمةً على حرةٍ.
قال أبو حنيفة: لا يجوز.
وكان القياس أن يجوز؛ إلا أنه ترك القياس، وأخذ في ذلك بخبر، روي عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال " لا تنكح الأمة على حرة " .
وقال من خالف: يجوز نكاحها. فأخذ بالقياس، وترك الخبر.
*مسألة، إذا تزوج العبد بإذن مولاه.
قال أبو حنيفة لا يجوز أن يتزوج أكثر من امرأتين.
وكان القياس أن يجوز له أن يتزوج بأربع نسوة كالحر، إلا أن أبا حنيفة ترك القياس، وأخذ بالخبر، وهو ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: " لا يتزوج العبد أكثر من اثنتين " .
وقال من خالفه بالقياس، وترك الخبر.
*مسألة، رجل وهب آخر هبة، ولم يقبضها الموهوب له.
قال أبو حنيفة: لا تصح الهبة.
وكان القياس أن تصح، إلا أنه ترك القياس، وأخذ بالخبر الوارد في ذلك، وهو ما روي عن أبي بكر الصديق، رضي الله عنه، أنه قال لعائشة: كنت نحلتك جداد عشرين وسقا بالعالية، ولم تكوني حزتيه، ولا قبضتيه، وإنما هو مال الوارث. جعل القبض شرطاً.
ومخالفة أخذ بالقياس، وترك الخبر.
*مسألة، إذا تزوج الرجل امرأة وهو غير كفءٍ لها.
قال أبو حنيفة: للأولياء حق الاعتراض.
وكان القياس أن لا يكون لهم ذلك، فترك أبو حنيفة القياس، وأخذ بالخبر، وهو ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال؛ " لا تزوج النساء إلا من كفءٍ " .
ومخالفة أخذ بالقياس، وترك الخبر.
*مسألة عند بين اثنين، أعتقه أحدهما وهو معسر.
قال أبو حنيفة: على العبد أن يسعى في نصف قيمته.
وكان القياس أن لا سعاية عليه؛ لأنه لم تكن منه جناية، فترك أبو حنيفة القياس، وأخذ بالخبر، وهو ما روى أبو هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال في عبدٍ من اثنين أعتقد أحدهما: " إن كان موسراً ضمن نصف قيمته، وإن كان مُعسراً سعى العبد في نصف قيمته غير مشقوق عليه " .
وقال المخالف: لا سعاية عليه. فأخذ بالقياس وترك الخبر.
*مسألة، السكران إذا طلق امرأته.
قال أبو حنيفة: يقع طلاقه وعتاقه.
وكان القياس أن لا يقع، فترك القياس، وأخذ بخبر رواه أبو هريرة رضي الله تعالى عنه، وعن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: " ثلاثٌ جدهن جد وهزلهن جد: الطلاق، والعتاق، والنكاح " .
وقال من خالفه: لا يقع طلاقه، وعتاقه؛ لأنه لا يعقل. فأخذ بالقياس، وترك الخبر.
*مسألة، لو اجتمع جماعة في قتل رجل عَمداً.
قال أبو حنيفة: يقتلون جميعاً.
وكان القياس أن لا تقتل الجماعة بواحد، فترك القياس، وأخذ بخبر روي عن عمر رضي الله تعالى عنه، أنه قتل سبعة نفر بقتل رجلٍ واحد، فترك القياس بهذا، حتى قال عمر، رضي الله تعالى عنه: لو اجتمع أهل صنعاء على قتله لقتلتهم به.
وقال من خالفه: لا تقتل الجماعة بواحد. فأخذ بالقياس، وترك الخبر.
وفي هذا القدر كفايةٌ في الدلالة على أن أبا حنيفة رضي الله عنه لم يقدم القياس على الخبر، ومن ادعى ذلك فليس عنده خبر، وأن مخالفه هو الذي فعل ذلك، والله أعلم.
ومن جملة التشنيعات في حق الإمام، رضي الله تعالى عنه، أنهم زعموا أنه ترك من فروع الفقه طريق الاحتياط والتورع، وأفرط في الرخصة فيما يحتاج فيه إلى التحرج.
والجواب عن ذلك، أن هذا زعم ممنوع، وقول غير مسموع، لأن أبا حنيفة رضي الله تعالى عنه، كان من أزهد الناس وأورعهم وأتقاهم لله تعالى، وقد ذكرنا سابقاً من شهادة العلماء له بذلك ما فيه الكفاية، والدلالة على أنه كان أجل قدراً من أن يترك الاحتياط، ويتساهل في الدين.
ذكر بعض المسائل، التي تدل على أنه أخذ فيها بالأحوط
ولا بأس بذكر بعض المسائل، التي تدل على أنه أخذ فيها بالأحوط، وترك غيره. فنقول، وبالله التوفيق:
*مسألة، إذا أكل في رمضان متعمداً.
قال أبو حنيفة: يجب عليه الكفارة، كما يجب على المجامع. فأخذ بالاحتياط.
وقال من خالفه: يجب عليه قضاء يوم واحد، ولا يجب عليه الكفارة.
وفيما ذهب إليه المُخالف ترك الاحتياط.
*مسألة، إذا شرع الرجل في صوم التطوع، ثم أفطر.
قال أبو حنيفة: يجب عليه القضاء.
وقال من خالفه: لا يجب عليه القضاء.
والاحتياط فيما ذهب إليه أبو حنيفة، لا فيما ذهب إليه المُخالف.
*مسألة: إذا صُب في جوف الصائم شراب أو طعام.
قال أبو حنيفة: انتقض صومه، وعليه القضاء. وسلك فيه طريقة الاحتياط.
وقال المخالف: لا ينتقض صومه. فترك الاحتياط في فتواه.
*مسألة، إذا قاء الرجل، أو رعف أو افتصد.
قال أبو حنيفة: انتقض وضوءه.
وقال المخالف: لا ينتقض.
والأحوط ما قاله الإمام.
*مسألة، إذا صلى الرجل خلف إمام، والإمام محدث أو جنب وهو لا يعلم، ثم علم بعد فراغه من الصلاة.
قال أبو حنيفة: لا تجوز صلاة الغمام، وصلاة المُقتدي.
وقال من خالفه: صلاة المُقتدي جائزة.
والاحتياط فيما ذهب إليه الإمام.
*مسألة، إذا نَسى الرجل الظهر والعصر، في يومين مختلفين، ولا يدري أيهما الأول.
قال أبو حنيفة: يُصلي الظهر، ثم العصر، ثم الظهر، حتى يسقط الفرض عن ذمته بيقينٍ، ويكون ذلك أخذاً بالاحتياط.
وقال من خالفه: يُصلى مرة واحدة، ولا يصلى مرتين.
وفي ذلك ترك الاحتياط، لأن الفرض لا يسقط عن ذمته بيقينٍ.
*مسألة، إذا تكلم الرجل في صلاته ناسياً.
قال أبو حنيفة: تفسد صلاته.
وقال من خالفه: لا تفسد إن كان قليلاً، وإن كان كثيراً تفسد.
والاحتياط فيما ذهب إليه الإمام.
*مسألة، إذا تناول المُحرم من محظورات إحرامه ناسياً.
قال أبو حنيفة: تلزمه الذكاة.
وقال من خالفه: لا تجب عليه إذا كان ناسياً، إلا في الأشياء التي نص الله في كتابه على تحريمها، نحو قتل الصيد والجماع، وحلق الرأس.
والاحتياط فيما ذهب ليه الإمام.
*مسألة، إذا اشترك الرهط المحرمون في قتل الصيد.
قال أبو حنيفة: يجب على كل واحد منهم كفارة على حدة.
وقال من خالفه: يجب عليهم كفارة واحدة.
والاحتياط فيما قاله أبو حنيفة.
*مسألة، إذا استأجر الرجل شيئاً، ثم أجره من غيره بأكثر مما اساجره، ولم يزد من عنده شيئا.
قال أبو حنيفة: لا تطيب له الفضل، ويتصدق به.
والاحتياط فيما ذهب إليه أبو حنيفة، حتى لا يكون داخلاً تحت نهيه عليه الصلاة والسلام عن ربح ما لم يضمن.
ومسائل هذا النوع لا تنحصر، وفيما ذكرناه كفاية.
الطبقات السنية في تراجم الحنفية / تقي الدين بن عبد القادر التميمي الداري الغزي رحمه الله
www.taleemulislam.net