وَعَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ ؛ أَنَّ النَّبِيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ :
الدِّينُ النَّصِيحَةُ ، قُلْنَا : لِمَنْ ؟ قَال : للهِ ، وَلِكِتَابِهِ ، وَلِرَسُولِهِ ، ولأَِئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ . (مسلم)
وقوله : الدِّينُ النَّصِيحَةُ ، هي مصدرُ : نَصَحَ يَنْصَحُ ، نَصِيحَةً ، ونُصْحًا بضم النون ، فأمَّا نَصَحْتُ الثوبَ ، فمصدره : نَصْحًا بفتح النون ؛ قاله الجوهريُّ.
وقال الخطَّابِيُّ : النصيحةُ كلمةٌ يعبَّر بها عن جملةِ إرادةِ الخَيْرِ للمنصوح له ، وهي في اللغةِ : الإخلاصُ ؛ من قولهم : نَصَحْتُ العَسَلَ : إذا صَفَّيْتَهُ.
قال نِفْطَوَيْهِ : يقال : نَصَحَ الشيءُ : إذا خَلَصَ ، ونصَحَ له القولَ : أخْلَصَهُ له.
وقيل : هي مأخوذةٌ من النَّصْحِ بالفتح ، وهي الخِيَاطةُ ، والإبرة : المِنْصَحَة ، والنِّصَاح : الخَيْطُ ، والنَّاصِحُ : الخَيَّاط ؛ فكأنَّ الناصحَ لأخيه يَلُمُّ شَعَثَهُ ويَضُمُّهُ كما تَضُمُّ الإبرةُ خَرْقَ الثوب.
۱: فالنصحُ للهِ تعالى : هو صحةُ اعتقادِ الوحدانيَّة لله تعالى ، ووصفُهُ بصفات الإلهية ، وتنزيهُهُ عن النقائص ، والرغبةُ في محابِّه ، والبُعدُ عن مَسَاخطه.
وقال القاري رحمه الله في مرقاة: (لله) أي: بالإيمان وصحة الاعتقاد في وحدانيته وترك الإلحاد في صفاته وإخلاص النية في عبادته، وبذل الطاقة فيما أمر به ونهى عنه، والاعتراف بنعمته والشكر له عليها، وموالاة من أطاعه، ومعاداة من عصاه، وحقيقة هذه الإضافة راجعة إلى العبد في نصيحة نفسه لله، والله غني عن نصح كل ناصح، كذا ذكره الخطابي، وخلاصته أن النصيحة لله هي التعظيم لأمره والشفقة على خلقه...
۲: والنُّصُحُ لكتابِ الله تعالى : هو الإيمانُ به ، وتحسينُ تلاوته ، وتفهُّمُ معانيه ، وقد بُّرُ آياته ، وتوقيرُهُ وتعظيمه ، والدعاءُ إليه ، والذَّبُّ عنه.
وقال في مرقاة: (ولكتابه) أي: والنصيحة لكتابه بالإيمان به، وبأنه كلام الله ووحيه وتنزيله لا يقدر على مثله أحد من المخلوقين، وإقامة حروفه في التلاوة، والتصديق بوعده ووعيده والاعتبار بمواعظه، والتفكر في عجائبه، والعمل بمحكمه، والتسليم بمتشابهه ذكره الخطابي.
وقيل: هو أن يكرمه ويبذل مجهوده في الذب عنه من تأويل الجاهلية وابتهال المبطلين.
۳: والنصحُ لرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ـ : هو التصديقُ بنبوَّته ، والتزامُ طاعتِهِ فيما أمَرَ به ونَهَى عنه ، وموالاةُ مَنْ والاه ، ومعاداةُ مَنْ عاداه ، وتوقيرُهُ وتعزيرُه ، ومحبَّتُهُ ومحبةُ آل بيته ، وتعظيمُ سُنَّتِه ، وإحياؤُهَا بعد موتِه ، بروايَتِهَا وتصحيحها ، والبَحْثِ عنها والتفقُّهِ فيها ، والذَّبِّ عنها ونَشْرِها والدعاءِ إليها ، والتخَلُّقِ بأخلاقِهِ الكريمة.
وقال في مرقاة: والانقياد له وإيثاره بالمحبة فوق نفسه وولده ووالده والناس أجمعين، والمراد محمد - صلى الله عليه وسلم - أو الجنس ليشمل الملك أيضا إذ هم رسل إلى الأنبياء كما قال تعالى: {جاعل الملائكة رسلا} [فاطر: ۱]
۴: ونصيحةُ أئمَّةِ المسلمين : هي طاعتُهُمْ في الحقِّ ، ومعونَتُهُمْ عليه ، وتذكيرُهُمْ به ، وإعلامُهُمْ بما غَفَلُوا عنه أو جهلوه في أمر دينهم ومصالح دنياهم ، وبالجملة : فأَنْ يكونَ معهم كما قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : أن تُؤْتِيَهُمْ مَا تُحِبُّ أن يُؤْتَى إِلَيْكَ ، وتَكْرَهَ لَهُمْ ما تَكْرَهُ لِنَفْسِكَ.
وقال القاري رحمه الله في مرقاة:
۵: (ولأئمة المسلمين) بأن ينقاد لطاعتهم في الحق، ولا يخرج عليهم إذا جاروا، ويذكرهم برفق ولطف، ويعلمهم بما غفلوا عنه ولم يبلغهم من حقوق المسلمين، ويؤلف قلوب الناس لطاعتهم، ومن النصيحة لهم: الصلاة خلفهم والجهاد معهم وأداء الصدقات إليهم، وأن لا يغريهم بالثناء الكاذب عليهم، وأن يدعو لهم بالصلاح، هذا كله على أن المراد بالأئمة الخلفاء وغيرهم ممن يقوم بأمور المسلمين من أصحاب الولاية، ومجمل معنى الإمام من له خلافة الرسول في إقامة الدين بحيث يجب اتباعه على الكل، وقد يتناول ذلك الأئمة الذين هم علماء الدين، وأن من نصيحتهم قبول ما رووه، وتقليدهم في الأحكام، وإحسان الظن بهم.
(المفهم لما اشكل من تلخيص كتاب مسلم)
وقال علي القاري رحمه الله في مرقاة:
۶: (وعامتهم) أي: ولعامة المسلمين، ولعل حكمة ترك إعادة العامل هنا إشارة إلى حط مرتبتهم بسبب تبعيتهم للخواص من أئمتهم بخلاف ما قبله، فإن كلا من المعمولات مستقل في قصد النصيحة، ثم نصيحة العامة بإرشادهم إلى مصالحهم الدينية والدنيوية وكف الأذى عنهم وتعليمهم ما ينفعهم في دينهم ودنياهم، وإعانتهم عليه قولا وفعلا، وستر عوراتهم، وسد خلاتهم، ودفع المضار عنهم، وجلب المنافع لهم، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر برفق، وتوقير كبيرهم ورحم صغيرهم، وتخولهم بالموعظة الحسنة وترك غيبتهم وحسدهم والذب عن أموالهم وأعراضهم، وغير ذلك من أحوالهم، ومجمله أن يحب لهم ما يحب لنفسه من الخير ويكره لهم ما يكره لنفسه من الشر.
وقال:
(الدين) أي: أعماله وأفضل أعماله أو الأمر المهم في الدين
(النصيحة) : وهي تحري قول أو فعل فيه صلاح لصاحبه، أو تحري إخلاص الود له، والحاصل أنها إرادة الخير للمنصوح له وهو لفظ جامع لمعان شتى.
وقال السيوطي في الديباج علي مسلم:
وقد قال العلماء إن هذا الحديث ربع الاسلام أي أحد أحاديث أربع يدور عليها قال النووي بل المدار عليه وحده لله إلى آخره.