العلامة وهبة الزحیلی رحمه الله / موقع تعلیم الاسلام
المبحث الأول ـ نشأة القضاء وتاريخه وحكمه وأنواعه :
القضاء لغة: الحكم بين الناس. والقاضي: الحاكم، وشرعاً: فصل الخصومات وقطع المنازعات (۱) . وهو أمر مطلوب في الإسلام لقوله تعالى مخاطباً رسوله: {وأن احكم بينهم بما أنزل الله } [المائدة:49/5] {فاحكم بينهم بالقسط}
[المائدة:42/5] {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله } [النساء:105/4]. ولقول النبي صلّى الله عليه وسلم : «إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر، وإذا اجتهد فأصاب فله أجران» (۲) «إذا جلس الحاكم للحكم بعث الله له ملكين يسددانه ويوفقانه، فإن عدل أقاما، وإن جار عرجا وتركاه» (۳) .
وحكمه شرعاً أنه فريضة محكمة من فروض الكفايات باتفاق المذاهب، فيجب على الإمام تعيين قاض، لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط} [النساء:135/4] قال بعضهم: «القضاء أمر من أمور الدين، ومصلحة من مصالح المسلمين، تجب العناية به؛ لأن بالناس إليه حاجة عظيمة (۴) . وهو من أنواع القربات إلى الله عز وجل، ولذا تولاه الأنبياء عليهم السلام، قال ابن مسعود: «لأن أجلس قاضياً بين اثنين أحب إلي من عبادة سبعين سنة» .
وحكمة تشريعه: حاجة الناس إليه لفض منازعاتهم، وتوفير مصالحهم، ورعاية حقوقهم، ومنع الظلم والتظالم، ومحاربة الأهواء .
أهمية القضاء :
القضاء منصب عظيم وخطير، وله مكانة في الدين، وهو وظيفة الأنبياء والخلفاء والعلماء، قال الله تعالى لنبيه داود عليه السلام: {يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض، فاحكم بين الناس بالحق، ولا تتبع الهوى، فيضلك عن سبيل الله ، إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب} [ص:26/38].
وكان الرسول صلّى الله عليه وسلم في دولة المدينة يتولى بنفسه القضاء بين الناس، فلم يكن للمسلمين قاض سواه، يصدر عنه التشريع، ثم يشرف على تنفيذه، فكان يجمع بين التشريع والتنفيذ والقضاء، وكان قضاؤه اجتهاداً لا وحياً، معتمداً على ما قرره: «البينة على المدعي واليمين على من أنكر» ويقول: «أمرت أن أحكم بالظاهر والله يتولى السرائر» «إنما أنا بشر مثلكم، وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن (۵) بحجته من بعض» (۶) وباتساع الدولة عهد الرسول صلّى الله عليه وسلم إلى بعض الصحابة بالقضاء، فبعث علياً كرم الله وجهه إلى اليمن للقضاء بين الناس، وبعث إليها أيضاً معاذ بن جبل رضي الله عنه. وولى عتَّاب بن أسيد أمر مكة وقضاءها بعد فتحها.
وسار الخلفاء الراشدون على هذا المنهج، فتولى عمر القضاء في عهد أبي بكر فظل سنتين لا يأتيه متخاصمان، لما اشتهر عنه من الحزم والشدة. وتم في عهد عمر بأمره فصل القضاء عن الولاية الإدارية، وعين القضاة في أجزاء الدولة الإسلامية في المدينة ومكة والبصرة والكوفة ومصر (۷) . فكان عمر هو أول من وضع أساس السلطة القضائية المتميزة، كماكان أول من وضع الدواوين كما عرفنا، وأول من وضع دستور القضاء في رسالته المشهورة إلى أبي موسى الأشعري (۸) ، وأول من استحدث نظام السجون، وكان الحبس في الماضي هو ملازمة المتهم من قبل المدعي أو غيره في منزل أو مسجد، وكان قضاء القضاة المستقلين عن الخليفة محصوراً في المنازعات المدنية المالية (۹) . أما الجنايات الموجبة للقصاص أو الحدود فبقيت في يد الخليفة، وولاة الأقاليم ذوي الولاية العامة. وأما ولاة الإمارة الخاصة، فلهم فقط حق استيفاء الحدود المتعلقة بحقوق الله تعالى المحضة كحد الزنى جلداً أو رجماً، أو المتعلقة بحقوق الأشخاص إن طلب طالب منهم ذلك (۱۰) .
وكان عثمان رضي الله عنه أول من اتخذ داراً للقضاء، بعد أن كان القضاء في المسجد.
وكان القضاء يقوم على أساسين:
الأول : نظام القاضي الفرد.
الثاني : عدم تدوين الأحكام في سجلات؛ لأنها تنفذ فوراً بإشراف القاضي (۱۱) .
وكان للقضاة أجور من بيت مال المسلمين منذ عهد عمر مقابل تفرغهم للقضاء.
ويتم إصدار الحكم باجتهاد القاضي وفراسته بالاعتماد على مصادر التشريع الأربعة: وهي القرآن والسنة والإجماع والقياس.
ثم تطور القضاء في عهد الأمويين والعباسيين باستقرار الدولة، فتحددت سلطات القاضي واختصاصاته وتنوع القضاء، وكان القضاة مستقلين في أعمالهم غالباً، وبدأ تسجيل أحكام القضاء في بدء العهد الأموي، واستحدث في عهد العباسيين منصب قاضي القضاة الذي كان أول من تولاه أبو يوسف تلميذ أبي حنيفة، وكان بمثابة وزير العدل يعين القضاة، ويعزلهم، ويراقب أعمالهم وأحكامهم، وظهر أيضاً قضاة المذاهب، فوجد في كل إقليم قاضٍ مذهبي، ففي العراق يعمل بالمذهب الحنفي، وفي الشام والمغرب على وفق المذهب المالكي، وفي مصر على وفق مذهب الشافعي.
واتسع سلطان القاضي تدريجياً، فأصبح ينظر بالإضافة إلى المنازعات المدنية في أمور إدارية أخرى كالأوقاف وتنصيب الأوصياء. وقد يجمع القاضي بين القضاء والشرطة والمظالم والحسبة ودار الضرب وبيت المال (۱۲) .
وكان نظام التحكيم معمولاً به بجانب القضاء. وانفصل قضاء المظالم وولاية الحسبة عن القضاء.
إلا أن القضاء العادي كان أسبق نشأة من غيره عندما تولاه الرسول صلّى الله عليه وسلم في المدينة وهو يفترض وجود اعتداء على حق شخصي وقيام خصومة بين شخصين. ثم ظهر نظام الحسبة في زمن المهدي للنظر في الاعتداءات الواقعة على المصالح العامة التي تمس أمن الجماعة وإن لم يوجد فيها مدعٍ شخصي لحماية حق خاص به. ثم وجد قضاء المظالم لحماية الحقوق والحريات من جور الولاة والحكام واستبداد الأقوياء حينما توسعت الدولة وضعف الوازع الديني وامتدت أطماع القواد إلى أموال الرعية. ومن أجل إقرار العدالة وإحقاق الحق لا بد من توافر
الأسس التالية للقضاء في الإسلام :
أولاً ـ اعتماده على العقيدة والأخلاق: لتربية الضمير والوجدان، وتهذيب النفس، وإعداد الوازع الديني والخلقي المهيمن على سير الدعوى. وهو مطلوب في اختيار القاضي، وعند رفع الدعوى، وفي معاملة الخصوم، وفي إصدار الأحكام وتنفيذها، وفي الإثبات الشرعي والتزام أحكام الشريعة ونحوها.
ثانياً ـ ضرورته في كل دولة: القضاء أمر لازم لكل دولة، كما اتضح من ممارسة الرسول صلّى الله عليه وسلم له، ومتابعة الخلفاء سنته واهتمامهم بتنظيمه. فهو إذن يحتل مركزاً مهماً في الدولة، ويعد أحد سلطاتها الضرورية لوجودها وبقائها: «العدل أساس الملك» بل ويستمد قوته من الدولة في التخاصم وإصدار الأحكام، واستيفاء الحقوق.
ثالثاً ـ استقلال السلطة القضائية والفصل بين السلطات: كان القضاء في عهد الرسول وخلافة أبي بكر وجزء من خلافة عمر يقوم به الولاة الإداريون، ثم أمر عمر بفصل أعمال القضاة عن أعمال الولاة، فعين القضاة في المدينة وسائر المدن الإسلامية، وجعل سلطة القضاء تابعة له مباشرة. وبه تحقق فصل السلطة القضائية عن بقية سلطات الدولة.
الفِقْهُ الإسلاميُّ وأدلَّتُهُ
ویلیه: شروط القاضي
__________
(۱) الدر المختار: 309/4، الشرح الكبيرللدردير: 129/4.
(۲) أخرجه الشيخان من حديث عمرو بن العاص وأبي هريرة، ورواه الحاكم والدارقطني من حديث عقبة ابن عامر وأبي هريرة وعبد الله بن عمر بلفظ: «إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر، وإن أصاب فله عشرة أجور» لكن في إسناده فرج بن فضالة، وهو ضعيف (نيل الأوطار: 262/8).
(۳) أخرجه البيهقي من حديث ابن عباس، وإسناده ضعيف (نيل الأوطار: 262/8).
(۴) اللباب شرح الكتاب للميداني: 77/4.
(۵) أي أفطن بها وأبصر.
(۶) الحديث الأول رواه البيهقي والثاني غير ثابت بهذا اللفظ، والحديث الثالث رواه الجماعة عن أم سلمة (نيل الأوطار: 278/8، كشف الخفا: ص 221 وما بعدها).
(۷) القضاء في الإسلام لعارف النكدي: ص 79.
(۸) أنظر أعلام الموقعين لابن قيم: 85/1 وما بعدها، الأحكام السلطانية للماوردي: ص68.
(۹) الإسلام والحضارة العربية للأستاذ محمد كرد علي: 154/2.
(۱۰) الماوردي، المصدر السابق: ص 30.
(۱۱) السلطات الثلاث للطماوي: ص 306.
(۱۲) مقدمة ابن خلدون: ص 192 وما بعدها.